آشور كيواركيس – بيروت
18/آب/2008يتفق العلماء بأن القومية ترتكز على عوامل مترابطة بشكل كلي، وهي : الثقافة المشتركة، الإنتماء الجغرافي المشترك، التاريخ المشترك.
وهناك عامل رابع وهو آخر ما تمّ زيادته على نظرية "عوامل القومية"، إلا وهو "الشعور القومي المشترك" إلا أن الكثير من علماء الأثنولوجيا رفضوا هذا العامل الجديد كونه من الممكن ألآ يشعر الإنسان بأنه من قوميته، وهذا الرفض منطقي جداً، فلو أخذنا على سبيل المثال الشعب الآشوري، نرى بأن بعض أبنائه يرفضون بأن يسمّوا آشوريين علماً أنهم يعترفون بأنهم يشاركون "الآشوريين" بالعوامل الثلاث الأولى، ويعود ذلك الرفض إلى أسباب عدّة لسنا في صددها، ولكننا نستطيع تقسيم هؤلاء إلى ثلاثة أقسام فقط لا غير:
آشوري لا يعرف الحقيقة فعلا
آشوري يعرف الحقيقة ويتنكر لها
آشوري لا يريد أن يعرف سوى ما يقوله رجل الدين
إذا هؤلاء هم ثلاثة أقسام: آشوري جاهل، وآشوري كاذب، وآشوري متعصّب كنسياً - ولكن في النهاية هم آشوريون أي يخضعون إلى العوامل الثلاثة أعلاه، التي يشترك بها الآشوريون ليس كقوميـّة فحسب، بل كـ"أمـّة" كذلك. ولدى انعدام تلك العوامل مجتمعة أو منفردة، تنعدم القومية كذلك.
والنقاش في هذه المقالة المتواضعة سيكون حول العامل الأوّل (الثقافة) كونها جزء من الهوية القومية المتمثلة بالعوامل المذكورة؛ الهوية القومية الثقافية (اللغة والعادات)، الهوية القومية الجغرافية (الأرض)، الهوية التاريخية (الإسم). وبما أنّ اللغة (من “Logos” اليونانية، أي "الكلمة")، تعدّ إحدى أهمّ العناصر الثقافية إلى جانب التقاليد في تكوين مقوّمات القومية لأي شعب، فماذا لو كان هذا الشعب ينتمي إلى مجموعة ثقافية مميـّزة عن محيطها المعادي دينياً وقومياً، وما بالك لو كانت ثقافته مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بماضيه الثقافي والجغرافي، وأخيرا وليس آخرا، ما بالك لو زوّر الناطقون بهذه اللغة تاريخهم وسمّوها بألقاب مستورَدة ؟
لو تطرّقنا إلى بدايات انتشار النزعة القومية في أوروبا لوجدنا بأنها بدأت بنزعة الثقافات (العادات واللغة) وهذا ما عبـّر عنه الكثير من المفكرين الأوروبيين من خلال كتاباتهم أو تعاملهم مع الواقع الأوروبي الجديد خلال أو بعد الثورة الفرنسية، ومنهم عالم الإثنولوجيا الألماني Richard Bockh الذي اعتبر يهود الإشكناز ألماناً لمجرّد أن لغتهم الـ Yiddishهي ألمانية مع بعض العبارات العبرية، لذلك، فحتى لو لم يوافق البعض هذا العالم فيما قاله، على الأقل علينا إعطاء لغتنا وهويتها، الأهمية التي تستحقـّها – بينما نرى اللغة الآشورية اليوم تنال حصتها من التهميش الهويـّاتي، وعلى يد إناس معروفين بمواقفهم المخجلة، فما يثير العجب هو أن مهمِّـشي اللغة الآشورية هم أنفسهم الداعين إلى تكريد المزيد من الأراضي الآشورية (هذا من ناحية المطلب القومي)، وهم أنفسهم متبني التسمية "المسيحيـّة" أو المركبة (هذا من ناحية الإنتماء)، فبتهميشهم لهوية اللغة التي تعدّ من أهم أسس القومية الثقافية، واغتيالها قومياً، يـُكملون المهمّة الموكلة إليهم من جميع النواحي، ولا يعود نجاحهم إلى دهائهم بقدر ما يعود إلى بساطة قسم كبير من الشعب الآشوري وانجراره وراء كل ما هو مدمّر لعقيدته القومية (لو فهمها)، تحت شعار "الوحدة من أجل الكرسي".
ولو أردنا التطرّق إلى موضوع تشويه هوية اللغة الآشورية لن نستطيع تجنـّب الدخول في السياسة، لأن التسميات الجديدة المركبـّة منها والمستبدَلة، كلها "سياسية" باعتراف كافة مبتكريها، ولكن رغم ذلك سنعالج الموضوع منطقياً، فالشعب الآشوري هو مجموعة قومية وليست سياسية، ويتمتع بإسم قومي لمجتمع قومي، ولغته القومية يجب أن تكون بإسم قوميـّـته بغضّ النظر عن مشاعر مار فلان أو الناخب الفلاني، وهذا يقع على عاتق المثقفين وخصوصاً منهم اللغويين الذين عليهم أن يفهموا جيداً الفارق بين معاني عبارتيّ "الإسم" و "التسمية"، فالإسم يكون مبتكراً ذاتياً (أي يطلقه الشعب على نفسه) أمـّـا "التسمية" فهي ما يتسمّى به هذا الشعب من الخارج (التسمية السريانية يونانية، والتسمية الكلدانية الحديثة فاتيكانية، أما الإسم الآشوري فهو آشوري) (1)
وتدخل مشكلة "هوية اللغة" ضمن مشكلة "هوية الشعب" ومن نفس المنطلقات: عقدة الواقع - المصالح الإنتخابية - جهل "المثقفين"
وقد عانت اللغة الآشورية ما عانته بسبب عواطف كنائسنا ومحاولتها عبر التاريخ إثبات مسيحانيـّـتها (Christology) بطرق ملتوية، مبالغة في الإلتصاق بالمسيح، رغم أن كنيسة المشرق هي أوّل كنيسة مسيحية وليس هناك أي داعي للتضحية بالثوابت التاريخية (إن لم نقل "القومية") في سبيل إظهار المسيحانية لمن اعتنق المسيحية بعدنا بقرون وقرون. ما نتكلم عنه هنا هو عبارة "نحن نتكلم لغة السيد المسيح" وهذا خطأ فادح وتعتبر كنائسنا كافة مسؤولة أمام الشعب الآشوري في توجيه المجتمع بالطرق السليمة ليفهم تاريخه وإلا فلتبتعد كنائسنا عمـّا تجهله، كون المسيح لم يتكلم الآشورية بتاتاً، ولو تكلمها فيكون هو من تكلم لغتنا وليس العكس، وما نلاحظه أن كنيسة المشرق رغم كونها الوحيدة المخلصة لهويتها الآشورية (حتى الآن)، بتقويميها القديم والجديد، لا تسمّي اللغة الآشورية المحكية اليوم إلا بـ"الآرامية" (آرامايا)، أو "السريانية" (سوريايا)، أمـّا باقي الكنائس (كمؤسسات) فلا تــُـحسَد على حالها سواء من ناحية الوعي أم الصدق تجاه قومية أتباعها من الآشوريين، وثقافتها الآشورية ... وحدّث بلا حرج.
والكثير من رجال الدين يعتمدون على إحدى الآيات الواردة في المجلة اليهودية الشهيرة "التوراة"، وهي الآية /26/ من الإصحاح الثامن والعشرين في سفر الملوك الثاني، التي تتحدّث عن ربشاقا قائد الجيش الآشوري الذي جاء ليخرّب أورشليم كما أمره الربّ، حيث كلم اليهود بلغتهم العبرية، وردّوا عليه قائلين : "كلم عبيدك بالآرامي لأننا نفهمه ولا تكلمنا باليهودي في مسامع الشعب الذين على السور"، ولكن المتذرعين بهذه الآية يتجاهلون الآية التالية /27/ التي يذكر فيها ربشاقا بأن ملك آشور قد طلب منه أن يتكلم العبرية مما يدل على أن القائد الآشوري كان مثقفاً يجيد الآشورية والعبرية والآرامية، وبأي حال، إذا كانت لغة الآشوريين "آرامية" لمجرّد أن ربشاقا كان يتقنها، فنستطيع القول بأن لغة الآشوريين كانت العبرية لأن ربشاقا كان يتقنها أيضاً كما تبيّن من خلال الآيتين، وهنا الجهل بعينه.
من الجدير التنبه إلى التفسيرات المزاجية لما نقرأه وخصوصا في مصادر غير موثوقة علمياً مثل "التوراة"، الذي يعتمده رجال الدين رغم عدم إيمانهم به في أكثر الأحيان، فإن أحد الذين نشروا التفسير الخاطئ للآية أعلاه هو "العلامة" المطران الراحل يعقوب أوغين منـّا في مقدمة قاموسه المسمّى "كلداني-عربي"، وذهب في خياله أبعد من ذلك لدرجة أنه اعتبر البابليين والآشوريين "آراميين" - كل ذلك بسبب آية سفر الملوك.
إن أكثر ما نراه اليوم مقرِّبا لكافة الآراء من بعضها هو تسمية "السورث" لللغة الآشورية الحديثة، فكافة أبناء الشعب الآشوري بمختلف انتماءاتهم من الناحية الطائفية أو المناطقيـّـة، يتفقون على هذه التسمية ويستعملونها، ولكنها علميا تسمية تافهة جداً كونها لم يتم تفسيرها لغويا حتى الآن إلى أية لغة، بل يتفق علماء التاريخ على كونها تأتي من "آشورث" (2) ، وهذا يسهل إثباته كوننا نزيد دائما حرف "الثاء" إلى أسماء اللغات، مثل: العربية: آرابث، الكردية: قوردث، التركية: توركث، الفارسية: فارست، وهكذا الآشورية ... آشورث ومنها "سورث"
وهنا يأتي دور اللغويين في إعادة الأمور اللغوية إلى نصابها الصحيح، فاللغوي هو آكاديمي علمي، وليس تاجر أفكار وكتابات ولا مرشح انتخابات يضحّي بالثوابت القومية في سبيل راتبه الشهري، أي أن التوعية والتصحيح يبقيان مسؤولية كبيرة على عاتق اللغوي كونه كما السياسي، ما فائدة ثقافته وذكائه إن لم يكن قومياُ صادقاً قبل كل شيئ ؟
فأمام إجحاف الساسة ورجال الدين بحق الثقافة الآشورية (سواء عن قصد أم جهل)، نرى بأنّ المثقفين أو من يعتبرون أنفسهم "لغويين"، والذين من المفترض بهم أن يقوموا بدورهم الرائد في الدفاع عن هوية اللغة، نراهم لايجيدون سوى قراءة القواميس وقلب كلماتها لإصدار قاموس "سرياني-عربي" أو "عربي- سرياني" وبيعه، وإقامة المؤتمرات الثقافية المزيّفة التي غالبا ما تكون ذات خلفية سياسية، وتأسيس المجامع اللغوية بطريقة تتماشى مع الموضة، حالهم حال الساسة، والكثير منهم من المتمسكين بالهوية الآشورية لغة وأرضاً وشعباً نراهم يستعملون التسميات المغلوطة وبشكل خاص "اللغة السريانية"، والأخطر من ذلك هو استعمال "الثقافة السريانية" كون عبارة "الثقافة" هي أكبر من أن يفهمها طارحوها، فالسريانية كما يعلم الجميع لا تنحصر بقومية واحدة، ولكنها محصورة بتراث كنسي واحد، وعدا عن ذلك فإن ولادة هذه التسمية اليونانية واستعمالها في المجتمع الآشوري بعد الميلاد كان خطأ كبيرا كون للآشوريين لغتهم الخاصة بهم، مما يعني بأنها لا تليق بأي شكل من الأشكال لأن تكون "ثقافة قومية"، لا من ناحية التاريخ ولا الجغرافيا ولا التفسير اللغوي للكلمة، فهذه العبارة، أي "سُريان" (سوريان) تأتي من "سوريا"، وتعني أبناء الكنيسة التي انتشرت في ما سماه اليونانيون بـ"سوريا" وهي المنطقة الواقعة بين جبال زاغروس وصحراء سيناء (3)
أمّا بخصوص الرابط اللغوي بين الآشورية المحكية (سوادايا)، والآشورية القديمة (آكادايا)، فنلاحظ بأننا نستعمل الكثير من الكلمات الآكادية في حياتنا اليومية، مع النظر إلى الإنتماء المناطقي أو اللهجوي (لهجة هكاري، أورميا، نينوى، طور عابدين ... ألخ)، وحتى قواعد اللفظ في الآشورية المحكية تشترك بشكل ملفت مع الآكادية (4) ، بحيث نرى آشوريي هكاري وأورميا لا يستعملون حرف "العين" (والصابئة كذلك) بل يلفظونه كما الألف في بداية الكلمة (عينا، تلفظ: أينا) أما في وسط الكلمة (الملفوظة) فتختفي كلياً (زرعا، تلفظ زرّا)، ولا وجود للفاء بل تلفظ كما حرف الـ “P” مثلا : أبرا : عفرا، تراب - ولا يستعملون الحاء بل الخاء وكل هذه الميزات اللفظية هي آشورية منذ نشوء الحضارة الآشورية، أما الكلمات العربية المشتقة من الآشورية فتلفظها "حاء" (خوبـّا : الحُبّ – خقلا : الحقل) ونلاحظ في لهجتي طورعابدين ونينوى، بأن آشورييها لا يلتزمون بقاعدة اللفظ الآكادي بحيث يلتزمون نفس القاعدة التي يلتزمها العرب، وهذا أقرب إلى اللفظ الآرامي للكلمة، منه إلى الآكادي.